يـصـبـح الـغـبـاء عـادة , حـيـن تــنـتــفـي لـديـنـا الإحـتـمـالات .
و حـيـن نـظـنّ دائـمـاً أنّ مـا يـصـلـنـا مـن أفـكـار جــاهــزة
هـو خـلاصـة و عـصـارة الـمـعـرفـة و الـفـهـم , و أنّ لـيـس
هـنـاك مـن داع ٍ لـلـبـحـث و الـتـقـصــّـي و الـغـوص في بـحـور
المعرفة الـتـي لا تـنـتـهـي و لا تـتـوقـــّـف عـلـى شـطـاّن عـقـل ٍ
واحـد ٍ مـهـمـا بـلـغـتْ عـبـقـريــّـتـه . و فـي أيّ مـجـال ٍ كـان .
لا أحـد في هـذه الـدنـيـا يـولـد غـبـيـّـاً , و الـجـهـل هـو الـقـاعـدة
الـفـطـريـّـة الأولـى الـتـي يـنـطـلـق مـنـهـا الإنـسـان نـحـو
الـعـلـم و الـتـعـلــّـم , لـيـمـلأ مـسـاحـة الجهل هـذه و يـمـحـوهـا
قـدر الإمـكـان , يـومـاً بعـد يـوم , و فـكـرة بـعـد فـكـرة , و عـلـم
مـكـتـسـب بجدارة , بـعـد عـلـم .
أخـطـر مـا يـواجـه الإنسان العربي على المستوى الفكري .
هـو أنـّه يـتـرك اّخـريـن يـفـكـّرون عـنـه , يـأخـذ الـفـكـرة
جـاهـزة , و يـُـمـرّرهـا تـلـقـائـيـا عـلـى مـراكـز أو نـقـاط
الـغـريـزة العصبـيـّة ( نسبة ًلـلـتـعـصـّب وليس الأعـصـاب ) الـكـامـنـة
فـيـه , أو يـوائـمـهـا مـع عـواطفه الـثـابـتـة الـمـوروثـة في معظم
الأحـيـان , فـإن تـوافـقـت , فـهـذه هـي , و كـلّ مـا عـداهـا هـراء .
الـعـقـل الـمـتـجـرّد مـن الـخـلـفـيـّات الـجـاهـزة , لا يـعـمـل
هـنـا , و لا عـلاقـة لـه بـمـا يـحـدث . بـل هـنـاك وعـاء ( سـطـل )
تـمّ طـلائـه مـنـذ زمـن بـعـيـد و تـهـيـئـتـه بالطريقة التي تـنـاسـب
المحيط الضـيـّق . و بـشـكـل لا يمكن معه تـغـيـيـر الأرضـيـّة أو
السقـف أو الـزوايـا , ليصبح الـصـدأ هـو الشكل الـنـهـائـي لـهـذا
الـشـيء , هـذا الـوعـاء الـذي كـان عـقـلاً في يـوم من الأيـام
و كـان قـابـلاً لـلـعـمـل و الإستيعاب و رمي الـبـالـي و استقبال
الجـيــّد و الـمـفـيـد .
يـقـضـي الإنـسـان الـسويّ حـيـاتـه كـلـهـا يـتـعـلـّـم مـن الاّخـريـن .
لـكـن , لـيـس أيّ اّخـريـن و ليس أيّ علم , و يـتـعـلــّم مـن تـجـاربـه
و مـن بـحـوثـه الـطـويـلـة الـتـي يــُـعـمـل عـقـلـه فيها حتى الـتـعـب
و الإرهـاق .
تـسـتـطـيـع أن تـتـعـلـّـم و تـسـتـفـيـد مـن الـنـاس جـمـيـعـاً , أغـبـيـاء
و أذكـيـاء , عـاديـون و عـبـاقـرة . لـكـنـك لا يـمـكـن أن تـتـعـلـّـم
مـن عـبـد , ومـن عـقـلٍ أجـيـر أقـصـى حـدود تـفـكـيـره و طموحاته
المعرفـيـّة و الفكريـّة تـنـحـصـر فـائـدتـهـا فـي مصلحته الـذاتـيـة
و تـصـل في تـطـلـعـاتـهـا إلـى كـرسـي أكـبـر بـقـلـيـل من الكرسي
الـذي يجلس عليه و بـرقـم ٍ يـزيـد بضعة أصفار على رقم حسابه
البنكي الحالي .
هـذا الـعـقـل الـعـامـل بالأجـرة ( و بالـجـزمـة ) لـدى الحاكم
أو لـدى صـاحـب رأس المال الـذي يـتـاجـر بالـفـكـرة و الـرأي
و الكلمة التي تـتـوافـق مع طـموحات رأسماله . و طموحات السلطة
و رأس الـمـال لا حـدود لـهـا , و لا مـبـادئ ثـابـتـة , و لا أخـلاق .
لا يـمـكـن أن تـركـن إلـيـه و تـتـعـلـّـم مـنـه شيء مـفـيـد لك و للناس
و للبشرية , أبـداً .
يـمـكـن فـقـط أن تـتـعـلــّـم بـطـريـقـة ( أخـذ الـعـبـرة ) لا بـطـريـقـة
اكـتـسـاب الـمـعـرفـة و الـعـلـم الـمـفـيـدَيـن .
تـذكــّـر أنّ بـإمـكـانـك الـتـعـلـّـم مـن عـدوّك الـلـدود , أكـثـر بـألــف
مـرّة مـن إمـكـانـيـة الإسـتـفـادة مـن عـقـل يـعـمـل بالأجـرة و لأجل الأجرة.
كـل الـجـرائـد و الـصـحـف الـعـربـيـة الـحـكـومـيـة و شبه الحكومية
و العاملة لـدى رأس المال الـمـتـوحـّـش , و كـلّ الـعـبـيـد
الـذيـن " يـضـخـّـون " الكلمات فيها , و الـذيـن يـنـتـقـلـون
مـع الحاكم أو مع رأس المال .. من اليسار إلى اليمين و من
العلمانية إلى الدين و من المقاومة إلى الإستسلام , حسب
مصلحة الحاكـم أو الـزعيم و زوجته و أبنائه ( و كـنــّـاتـه
و أصـهـرتـه ) لا يـمـكـن أن يـفـيـدوك بـشـيْ , و لا يـمـكـن
أن يـنـقـلـوك ( و عـقـلـك ) خـطـوة إلـى الأمـام , بـل إنّ حـمـاراً
بـلا عـقـل , يـمـكـن لـك أن تـتـعـلـّـم مـنـه شـيـئـاً مـفـيـداً واحـداً
عـلـى الأقــلّ .. هــو الـصـبـر .
لـكـن هـؤلاء , يــُـعـلــّـمـونـك بـحـكـم العادة و الـتـلـقـــّـي الـغـبـي
و الـبـلادة .. يـعـلــّـمـونـك كـيـف تـصـبـح ... حـمـاراً .
و هـو أمـرٌ لا يـحـتـاج إلـى بـحـث ٍ و تـعـب و ( سـهـر الليالي
في طلب العلا ) , لـكـنــّـه بـكـلّ تـأكـيـد , و فـي عـالـمـنـا الـعـربيّ
فـقـط , دونـاً عـن العالمين , قـد يــُـؤمـّـن لـك , كـرسـيـّـاً أكـبـر
و مـكـتـبـاً أكـثر فـخـامة ً... و ربـمـا سـكـرتـيـرة ً جـمـيـلـة ..
و أيـضـاً لـقـب " أسـتـاذ " .. مـع أنّ مـنْ يـُـطـلـقـون عليك
هـذا الـلـقـب , يـعـلـمـون أنـّـك " حـمـار " , و يـعـلـمـون أنــّـك
تـعـلـم أنــّـك " حـمـار " .
جــو غـانـم