الأحد، 19 أبريل 2009

فـي مـديـح الـعـقـل





يـصـبـح الـغـبـاء عـادة , حـيـن تــنـتــفـي لـديـنـا الإحـتـمـالات .

و حـيـن نـظـنّ دائـمـاً أنّ مـا يـصـلـنـا مـن أفـكـار جــاهــزة

هـو خـلاصـة و عـصـارة الـمـعـرفـة و الـفـهـم , و أنّ لـيـس

هـنـاك مـن داع ٍ لـلـبـحـث و الـتـقـصــّـي و الـغـوص في بـحـور

المعرفة الـتـي لا تـنـتـهـي و لا تـتـوقـــّـف عـلـى شـطـاّن عـقـل ٍ

واحـد ٍ مـهـمـا بـلـغـتْ عـبـقـريــّـتـه . و فـي أيّ مـجـال ٍ كـان .


لا أحـد في هـذه الـدنـيـا يـولـد غـبـيـّـاً , و الـجـهـل هـو الـقـاعـدة

الـفـطـريـّـة الأولـى الـتـي يـنـطـلـق مـنـهـا الإنـسـان نـحـو

الـعـلـم و الـتـعـلــّـم , لـيـمـلأ مـسـاحـة الجهل هـذه و يـمـحـوهـا

قـدر الإمـكـان , يـومـاً بعـد يـوم , و فـكـرة بـعـد فـكـرة , و عـلـم

مـكـتـسـب بجدارة , بـعـد عـلـم .

أخـطـر مـا يـواجـه الإنسان العربي على المستوى الفكري .

هـو أنـّه يـتـرك اّخـريـن يـفـكـّرون عـنـه , يـأخـذ الـفـكـرة

جـاهـزة , و يـُـمـرّرهـا تـلـقـائـيـا عـلـى مـراكـز أو نـقـاط

الـغـريـزة العصبـيـّة ( نسبة ًلـلـتـعـصـّب وليس الأعـصـاب ) الـكـامـنـة

فـيـه , أو يـوائـمـهـا مـع عـواطفه الـثـابـتـة الـمـوروثـة في معظم

الأحـيـان , فـإن تـوافـقـت , فـهـذه هـي , و كـلّ مـا عـداهـا هـراء .

الـعـقـل الـمـتـجـرّد مـن الـخـلـفـيـّات الـجـاهـزة , لا يـعـمـل

هـنـا , و لا عـلاقـة لـه بـمـا يـحـدث . بـل هـنـاك وعـاء ( سـطـل )

تـمّ طـلائـه مـنـذ زمـن بـعـيـد و تـهـيـئـتـه بالطريقة التي تـنـاسـب

المحيط الضـيـّق . و بـشـكـل لا يمكن معه تـغـيـيـر الأرضـيـّة أو

السقـف أو الـزوايـا , ليصبح الـصـدأ هـو الشكل الـنـهـائـي لـهـذا

الـشـيء , هـذا الـوعـاء الـذي كـان عـقـلاً في يـوم من الأيـام

و كـان قـابـلاً لـلـعـمـل و الإستيعاب و رمي الـبـالـي و استقبال

الجـيــّد و الـمـفـيـد .

يـقـضـي الإنـسـان الـسويّ حـيـاتـه كـلـهـا يـتـعـلـّـم مـن الاّخـريـن .

لـكـن , لـيـس أيّ اّخـريـن و ليس أيّ علم , و يـتـعـلــّم مـن تـجـاربـه

و مـن بـحـوثـه الـطـويـلـة الـتـي يــُـعـمـل عـقـلـه فيها حتى الـتـعـب

و الإرهـاق .

تـسـتـطـيـع أن تـتـعـلـّـم و تـسـتـفـيـد مـن الـنـاس جـمـيـعـاً , أغـبـيـاء

و أذكـيـاء , عـاديـون و عـبـاقـرة . لـكـنـك لا يـمـكـن أن تـتـعـلـّـم

مـن عـبـد , ومـن عـقـلٍ أجـيـر أقـصـى حـدود تـفـكـيـره و طموحاته

المعرفـيـّة و الفكريـّة تـنـحـصـر فـائـدتـهـا فـي مصلحته الـذاتـيـة

و تـصـل في تـطـلـعـاتـهـا إلـى كـرسـي أكـبـر بـقـلـيـل من الكرسي

الـذي يجلس عليه و بـرقـم ٍ يـزيـد بضعة أصفار على رقم حسابه

البنكي الحالي .

هـذا الـعـقـل الـعـامـل بالأجـرة ( و بالـجـزمـة ) لـدى الحاكم

أو لـدى صـاحـب رأس المال الـذي يـتـاجـر بالـفـكـرة و الـرأي

و الكلمة التي تـتـوافـق مع طـموحات رأسماله . و طموحات السلطة

و رأس الـمـال لا حـدود لـهـا , و لا مـبـادئ ثـابـتـة , و لا أخـلاق .

لا يـمـكـن أن تـركـن إلـيـه و تـتـعـلـّـم مـنـه شيء مـفـيـد لك و للناس

و للبشرية , أبـداً .

يـمـكـن فـقـط أن تـتـعـلــّـم بـطـريـقـة ( أخـذ الـعـبـرة ) لا بـطـريـقـة

اكـتـسـاب الـمـعـرفـة و الـعـلـم الـمـفـيـدَيـن .

تـذكــّـر أنّ بـإمـكـانـك الـتـعـلـّـم مـن عـدوّك الـلـدود , أكـثـر بـألــف

مـرّة مـن إمـكـانـيـة الإسـتـفـادة مـن عـقـل يـعـمـل بالأجـرة و لأجل الأجرة.

كـل الـجـرائـد و الـصـحـف الـعـربـيـة الـحـكـومـيـة و شبه الحكومية

و العاملة لـدى رأس المال الـمـتـوحـّـش , و كـلّ الـعـبـيـد

الـذيـن " يـضـخـّـون " الكلمات فيها , و الـذيـن يـنـتـقـلـون

مـع الحاكم أو مع رأس المال .. من اليسار إلى اليمين و من

العلمانية إلى الدين و من المقاومة إلى الإستسلام , حسب

مصلحة الحاكـم أو الـزعيم و زوجته و أبنائه ( و كـنــّـاتـه

و أصـهـرتـه ) لا يـمـكـن أن يـفـيـدوك بـشـيْ , و لا يـمـكـن

أن يـنـقـلـوك ( و عـقـلـك ) خـطـوة إلـى الأمـام , بـل إنّ حـمـاراً

بـلا عـقـل , يـمـكـن لـك أن تـتـعـلـّـم مـنـه شـيـئـاً مـفـيـداً واحـداً

عـلـى الأقــلّ .. هــو الـصـبـر .

لـكـن هـؤلاء , يــُـعـلــّـمـونـك بـحـكـم العادة و الـتـلـقـــّـي الـغـبـي

و الـبـلادة .. يـعـلــّـمـونـك كـيـف تـصـبـح ... حـمـاراً .

و هـو أمـرٌ لا يـحـتـاج إلـى بـحـث ٍ و تـعـب و ( سـهـر الليالي

في طلب العلا ) , لـكـنــّـه بـكـلّ تـأكـيـد , و فـي عـالـمـنـا الـعـربيّ

فـقـط , دونـاً عـن العالمين , قـد يــُـؤمـّـن لـك , كـرسـيـّـاً أكـبـر

و مـكـتـبـاً أكـثر فـخـامة ً... و ربـمـا سـكـرتـيـرة ً جـمـيـلـة ..

و أيـضـاً لـقـب " أسـتـاذ " .. مـع أنّ مـنْ يـُـطـلـقـون عليك

هـذا الـلـقـب , يـعـلـمـون أنـّـك " حـمـار " , و يـعـلـمـون أنــّـك

تـعـلـم أنــّـك " حـمـار " .




جــو غـانـم

11