ـــ إنّ الخطر الأكـبـر على أيّ شعـبٍ مقهور و مـُسـتـعـبَـد
لا يـكـمـن بـدايـةً في الحاكم ( القاهر ) و رجاله و زبـانـيـتـه .
بـل فـي الشعب نفسه قبل أي أحـد ٍ اّخـر . الشعب الساكـت
الـخـانـع الـخـائـف و الـذي لا يـريد أن يـُـصـدّق أن الـطـغـاة
هـم أجـبـن الـنـاس , و أنـهـم يـسـتـمـدّون قـوّتـهـم الـمـزعـومة
و جـبـروتـهـم , مـن خـوف الـنـاس و سـكـوتـهـم .
يـجـب عـلـى الـحـاكـم أن يـخـشى الـشـعـب و يـخـاف الشعب
إن لـم يـُـرد احـتـرام هـذا الـشـعـب . و احـتـرام الشعب غـيـر وارد
أبـداً في عـقـلـيـّـة الحاكم الـعـربـي على وجـه الـتـحـديـد , بـل
إنّ أعـجـب مـا سـمـعـتـه في حياتي على لسان حاكم عربي يقول
دون أن يـرفّ لـه جـفـن , واصـفـاً بـعـض الـقـوى الـوطـنـيـّـة
و التحررية بـأنـهـا : ( تـنـجـرّ وراء صـيـحـات و عواطف الرأي
الـعـام ) و لا أدري لـمـاذ ا لـم يـُـطـلـق وصـف " الغوغاء " على
الشعب بـدل وصف " الـرأي العام " فـليس جيداً بـحـقــّـه أن يعترف
أنّ للـعـامـّة " رأي " . فـهـم رعـاع لا يـفـقـهـون , و هـو اخـتـار
مـشـكـوراً و على مـضـض , أن يـقـودهـم و عليهم أن يكونوا
شاكرين لـه لأنه رضـي و قـَـبـِـل أن يـدوسـهـم بـنـعـلـه و هـو
يـقـودهـم إلـى ( الطريق الصحيح و يسوسهم بالرأي السديد ) .
الـخـطـر الـثـانـي , يـكـمـن فـي كــَـتـبـة الـحـاكـم و " مـُـثـقــّـفـيـه "
الـذيـن اصـطـفـاهـم لـيـجـمـّلـوه و يـلـمـّـعـوه و يـُـبـيـّـضـوه ( تـصـلـح
بـمـعـنـى تـبـيـيـض وجـهـه و أيضاً اللعب بـبـيـضـه ) . هـؤلاء
الـدفـتـرداريـّـة و الـعـرضـحـالـجـيـّـة ( يعرضون حـال الزعيم بأفضل
صورة و يـُعـرّضون الشعب لـعـمـلـيـّات غسيل مـخ و نصب و تدليس
و كـذب مـنـظـّم , و يـُعـرّضون أنفسهم للإحتقار أمام الزعيم و الشعب
و التاريخ ) هـؤلاء خـطـر عـظـيـم و أدوات لاستعمار داخـلـي مقيم .
و مـكـمـن خـطـورتـهـم يـرجـع أيضاً لـكـون بـعـض أفـرادالـشـعـب
يـظـنـّـونهـم أذكـيـاء و يـسـقـطـون فـي بـراثـنـهـم .
عـلـى الشعوب أن تـتـحـرر مـن خـوفـهـا أولاً و أن تجعل الحاكم
يـحـسـب لـهـا و لـغـضـبـهـا ألف حساب في الصباح و الـمـسـاء
و عـلـيـهـا أن تـفـضـح هـؤلاء الـكـَـتـبـة و تـعـزلـهـم و تـعـرّفـهـم
حـقـيـقـتـهـم و تـسـخـر مـنـهـم , و عـلـى المواطن أن يـُـثـقـّـف
نـفـسـه و يـتـعـب على نفسه و أن يحبّ وطنه و يسعى لأن يكون
هـذا الوطن جـنــّتـه على الأرض , لا أن يـحـبّ جـلاّده و يرى
فيه و كـيـل الإلـه على الأرض . و أنـّـه هـو الوطن و هو شرف
الوطن و هو كرامة الـوطـن , و نـظـريـّـة أنّ الـحـاكـم هـو الوطن
و مـنـه يسـتـمـدّ الوطن كـرامـتـه و شـرفـه و هـو رمـز هـذا الوطن
و المساس بـه هـو خـيـانـة لـلـوطـن و عـزّة الـوطـن , هـي نـظـريـّـة
غـبـيـّـة إستعبادية قـد تـنـطـبـق على " نـيـرون " أكثر مما تـنطبق
على هـؤلاء الـطـغـاة الـذيـن يـحـكـمـونـنـا بالـقـهـر و النار و الحديد
بـل إنّ هـؤلاء و أزلامـهـم هـم " مـاخـور " الـوطـن لا شـرف الـوطـن .
ــ أكـثـر الـنـاس الـذيـن أخـافـهـم و يـصـيـبـونـنـي بالـرعـب
هـم الـطـائـفـيـّـون الـمـتـعـصـّبـون الـمـتـزمـّـتـون بغير حقّ
و الـذيـن يـرفـضـون الاّخـر بالـمـطـلـق أو يـتـعـالـون عـلـيـه
أو يحـتـقـرونـه و يـحــتـقـرون عـقـائـده و أفـكـاره , هـؤلاء
الـغـريـزيـّـون بالـولادة ( ليس هناك أيّ دين يدعو إلى نـبـذ
الاّخـر و احتقاره و السخرية منه و التعالي عليه ) هـؤلاء
أشـدّ خـطـراً على الناس و على أنفسهم , من الـسـلـطـان
و مـن كـتـبـة السلطان و من الشعب الساكن الخانع الساكت
عن جور السلطان و عهر كـتـبـتـِـه و حـاشـيـتـه .
يـقـول شـاعـر الـحـريـّـة الـيـاس فـرحـات :
إنّ الـتـعـصــّب لـلـمـذاهـب شــرّ مـا
أبـقـى لأمـتـنـا الـزمـان الـفـاســدُ
مـنـه لأبـنـاء الـبـلاد مـصــائــبٌ
شــتـــّـى , و لـلـمـسـتـعـمـريـن فـوائــدُ .
و يـقول أيـضـاً :
أنـا لا أصــدّق أنّ لـصــّـاً مـؤمـنـاً
أوفـى لـربــّــكَ مـن شـريـف ٍ مـُـلـحـِـدِ
ـــ هـنـاك خـطـر اّخـر يـجـب الإشـارة إلـيـه هـنـا و عـدم
إغـفـالـه , و هـو أنـا و أمـثـالـي ( أو كـثـير مـنـهم ) مـمـّن
يـكـتـبـون هـذا الـكـلام ثـم يـذهـبـون إلـى الـنـوم و قـد ارتـاحـت
ضـمـائـرهـم , دون أن يـخـطـر لـهـم أن يـخـرجـوا بـعـد هـذا
الـتـنـظـيـر الـكـتـابـيّ , و يـقـودون مـظـاهـرة فـي شـارع
مـن شـوارع الـعـروبة أو من على رصيف من أرصـفـة الـقـهـر
الـمـمـتـدّة مـن المحيط إلـى الـخـلـيـج . و الـخـطر هـنـا يـكـمـن
فـي أنـنـا وقـعـنـا ضـحـيـّـة خـدعـة جـديـدة لـهـؤلاء الـطـغـاة
حـيـن جـعـلـونـا نـُـصـدّق فـي غـفـلـة أو شـبـه غـيـبـوبـة , أنّ
كـلّ مـا عـلـيـنـا فـعـلـه , هـو أن نـُـعـبـّـر قـلـيـلاً عـن غـضـبـنـا
و غـضـب الناس من حولنا , و نـكـتـبـه و نـزخـرفـه , ثـم نـذهـب
إلـى الـنـوم بـعـد انـتـهـاء الـمـهـمـّة , راضـيـن مـرضـيـيـن .
بـل إنّ بـعـضـنـا أو مـعـظـمـنـا , يـشـكـر الـطـغـاة عـلـى ( إتـاحـة
هـذه الـفـرصـة الـثـمـيـنـة ) لـسـمـاحـهـم لـنـا بالـتـعـبـيـر عـن
الـرأي , حـيـث أنّ هـذا لـم يـكـن مـمـكـنـاً فـي زمـن " قـراقـوش "
( و ما كـنـتـم لـتحلـمـوا بـذلك في عـهـودٍ مـضـت و تحت حكم أنـظمـةٍ
خـلـتْ , هـكـذا سـيقـولـون لـك ) .
و كـأنّ كـل مـصـائـبـنـا تـنـتـهـي عـنـد الــتـفـضـّـل بالسماح لـنـا
بالـتـعـبـيـر بشكل موجـز عـن الـرأي , أو إتـاحـة الـفـرصـة لـنـا
كـي نـغـضـب قـلـيـلاً . دون أن يخرج غضبنا و يتطوّر إلى ما هـو
أبعد من الـورقـة أو ( الـكـيـبـورد ) .
قـريـبـة ٌ لـي تـعـيـش فـي دولة اسكـندنافيّة روت لـي قـبـل فـتـرة
أنــّـه وفـي إحـدى الـمـنـاسـبـات الـوطـنـيـّـة هـنـاك , كـان الـمـلـك
واقـفـاً عـلـى شـرفـة بـيـتـه يـُـحـيـّي بـعـض أهـل الـبـلاد الـذيـن
أتـوا لـتـحـيـّـتـه و تـهـنـئـتـه بالـمـنـاسـبـة , و فـجـأة صـرخ
أحـد الـمـواطـنـيـن فـي وجـه الـمـلـك قـائـلاً : أيـهـا الـمـلـك
أنـا أكـرهـك .. فـأجـابـه الـمـلـك : و لـمَ تـكـرهـنـي ؟ مـاذا
فـعـلـت لـك ؟ ردّ الـمـواطـن : أكـرهـك لأنـّـك مـلـك و تـعـيـش
حـيـاة الـمـلـوك !! , ردّ الـمـلـك قـائـلاً : أنـت تـكـرهـنـي لأنـّي
مـلـك , و أنـا أحـسـدك مـن كـلّ قـلـبـي لأنـّـك مـواطـن , و أنـت
تـعـلـم أنـّـي كـمـلـك , ليس لي أيّ مكاسب خـاصـّـة تـزيـد
عـن مـكـاسـبـك . ردّ الـمـواطـن : تـحـسـدنـي عـلـى مـاذا ؟؟
قـال الـمـلـك : أحـسـدك لأنـّـك مـواطـن عـادي و لست ملـكـاً .
أنت تـفـعـل مـا يـحـلـو لـك , و تـقـول مـا يـحـلـو لـك , و تـقـف فـي
وجـه الـمـلـك و تــُـعـبـّـر عـن مـشـاعـرك تـجـاهـه و تـقـول لـه
بـكـل أريـحـيـّـة أنـك تـكـرهـه , هـل تـدرك مـالـذي سـيـحـصل
لـو أنــّـي رددت عـلـيـك الاّن و قـلـت لـك بـأنـّـي أبـادلـك نـفـس
الـمـشـاعـر , بـأنــّـي أكـرهـك !! أنـا لا أسـتـطـيـع حـتـّى أن
أعـبـّر عـن مـشـاعـري تـجـاه رجـل يـكـرهـنـي مـع أنـّـي لـم
أفـعـل لـه شـيـئـاً يـسـتـوجـب الـكـره , أنـا مـلـك و غـيـر مسموح
لـي أن أكـرهـك و أن أعـبـّر عن مشاعري بنفس الحريـّة
الـتـي تـسـتـطـيـع بـهـا أنـت .. أنـا أحـسـدك مـن كـلّ قـلـبـي .
جــو غـانـم