كان بإمكان قوات"الناتو" أن تقتل الطاغية القذافي,بعيدًا عن الأعين,و تُصدِّر لنا خبرًا عن الحدث, خبرًا مدروسًا بعناية فائقة,مثل خبر قتل أسامة بن لادن بعيدًا عن الأعين و الإعلام, كانت الصورة الإعلامية لأسامة ,أنه عدوّ للغرب و أمريكا, لا عدوًّا للشعب العربي, تلك كانت صورته ,كيفما كان رأيي و رأيك بالموضوع كلّه।قُتِل أسامة في ليلةٍ ليلاء ,و استيقظنا على خلاصة الخبر : مقتل أسامة بن لادن في عمليّة نوعيّة و رمي جثمانه في البحر ( أخبرَنا البيت الأبيض أنّ تلك هي الطريقة الإسلامية في الدفن !! ) و كفى ।لكنهم لم يفعلوا في حالة القذافي ,اعترضوا طريقه ( حسب وزيرالدفاع الفرنسي ) و أوقفوا موكبه و سلّموه لمن يقتله بهذه الصورة, كانوا واثقين أنه سيُقتَل بهذه الصورة,ولا شكّ أنهم أشرَفوا على مقتله عن قُرب, و حرصوا على إتمام الأمر هكذا । مهمّة الناتو أن يُدمّر البلدان و يُحوّلها إلى ساحة جريمة تامّة, و يسطو عليها,و أن يترك عمليات القتل الإعلامية الفرديّة الاستعراضيّة القذرة,ليقوم بها بعض أهل البلد। كي يُظهروا صورة بعينها لنا ,و يصدّروها إلى الخارج ,و كي يتم استخدامها للحديث الدائم على الإعلام والتأثير من خلالها على الناس وإلهائهم لِغضّ الطرف عن حديث "الناتو"وأفعاله ( عمليّات القتل الجماعية يقوم بها الطغاة و الناتو بالتناوب ,لكن تلك التي يقوم بها الناتو غير مسموح أن تظهر في الإعلام ,اسألوا و يكيليكس و مدير قناة الجزيرة السابق والذي تشير معلومات صحفيّة أنه بصدد تأسيس قناة إخبارية في طرابلس الغرب,مموّلة بالمال القطَري ـ هل أصبح هذا الرجل جزءًا من عمليّات الناتو المُتنقّلة والمال القطري المرافق لتلك العمليّات ؟ أتوا به لمرحلة ما بعد صدّام في هذا الشرق ,و ينقلونه الآن ـ مع عتادهم ـ إلى المغرب العربي لمرحلة ما بعد القذافي ؟).
غير مسموح لنا نحن كشعوب, أن نظهر بصورة أفضل أبدًا,غير مسموح لأيّ شعب أن يقتصّ وطنيًّا من الطغاة الفاسدين (من صنائع الناتو والغرب ) و يُجلسهم على كُرسيّ في محكمةٍ و يسألهم عن كلّ صغيرة و كبيرة,عمّا فعلوه بأوطاننا و عمّن أعانهم على هذا الفعل لعقود طويلة ।لم يَسمح الغرب ,و لا إيران أيضًا, للشعب العراقي أن يُحاكم صدّام كما يليق بهذا الشعب,و كما يليق بأي شعب يريد أن يؤسس لدولة القانون الوطني ( و قد اعتبر فقيه الجزيرة ,أن صدّام قُتِلَ شهيدًا ,بينما القذافي يجب قتله شرعًا ـ لا نعرف لماذا ؟ بل نعرف لماذا )।قُتل صدّام بعد مسرحيّة هزليّة ,و عُلّقت مشنقته في أوّل أيام عيد الأضحى, و هم يعرفون ما الذي سيعنيه ذلك لكثيرٍ منَ المسلمين । لكن , تلك كانت هي الصورة المطلوبة تمامًا ।
لقد حدثت ثورة وطنية في مصر سنة 1952 قام بها ضبّاط أحرار,أعادوا أموال الشعب منَ الملك و وضعوه على سفينة ـ بل و أدّوا له التحيّة العسكرية لأنه كان "ملك مصر" وليس لأنه "فاروق" ,هذا الذي أُحرقت القاهرة في عهده ـ و أرسلوه إلى المنفى ليموت بغمّه و غيظه وإفلاسه, و يومها جنّ جنون الغرب لأنّ المصريين بدوا كوطنيين أقوياء "مُتحضّرين",مُستقلّين بإرادتهم و قرارهم الوطني و حكمهم على الأمور.و هذا ممنوع على الشعب العربي و على أيّ شعب لا يُسبّح بحمد الغرب "والرجل الأبيض" و يُقدّم له بلاده و مواردها و قرارها السياسي على طبقٍ من عار .و أنا لست مع الرحمة مع الطغاة و الفاسدين أبدًا,لست مع أن يوضعوا على سفينة و يُقال لهم : مع السلامة و عفا الله عمّا مضى. ,كما أني و بنفس القدر ,لست مع أي نوع من الرحمة مع المُحتلّ و أعوان المُحتلّ ,لكن أيضًا ,أرفض و بقوّة أكبر , تصوير العربي على أنه إمّا قاتل أو قتيل فقط, همجيّ في كلّ أحواله و مُستَخدَمٌ و قاصر و عاجز و مُستَهلَك وأفعاله مُتَوَقَّعَة كأيّ همجيّ,أكان طاغيةً أم كان مواطنًا ثائرًا على طاغية ,و أنّ على هذا الأخير أن يبدو ك"مشروع طاغية واضح"حصرًا .لا يُراعي حرمة لقانون أو لدين ,مثله مثل طغاة بلاده.
عليه أن يبدو كذلك أمام العالم أجمع ,حتى لو كان فِعله عفويًّا بعد معاناة و ظلم كبيرين,,بينما يقوم الغرب و جيوشه و حكوماته و طوال الوقت بأكثر الأفعال ـ المُمنهجةِ طبعًا ـ همجيّةً على الإطلاق,بعيدًا عن العين الإعلامية الضاربة, و بعيدًا عن أي صورة تُظهره على حقيقته ।الغرب يجب أن يظهر فقط ,بصورة المُحرّر و الفاتح و المُعين للشعوب على استرجاع حرّيتها ,صورة من ينشر الديمقراطية و الحرية في بلاد الدنيا , ينشرها " لوجه الله" و وجه الإنسان المظلوم , نفس الإنسان الذي لا يستحق برأي الغرب ـ و حرصه على ذلك ـ سوى صورة الهمجيّ ,غير القادر على استحقاق عقله و بلاده و حريّته ।
انتفاضة مصر الآن,تُحاول محاكمة الرئيس السابق,كما يليق بمصر وشعبها,و قد تُنزل به أشدّ العقوبات وفقاً للقانون الوطني المصريّ ,بعد أن يُسأل عن كل شيء,عن كلّ صغيرة و كبيرة,كما يجب و كما ينبغي, و لكن هناك جهود أسطوريّة خارجيّة لإحباط هذا القصاص الوطني بصورته هذه,هناك جنون في الخارج (القريب والبعيد) من هذه الصورة,هناك من عرض دفع مليارات الدولارات ,لمنع حدوث هذه المحاكمة ,هذا الجنون وهذه الجهود,يقوم بها من سلّموا القذافي ليُقتَل بهذه الطريقة ,و من سلّموا صدّام قبله ليُقتل بتلك الطريقة । و من يحرصون على ألّا يكون لنا طريقتنا المُشرّفة في أي شي,و حول أي شيء كي نبدو دائمًا ,بحاجة إلى وصاية । وهذا القتيل ـ القاتل ,الذي ترون جثته على الشاشات الآن, كان في نظر الناتو و سادة الغرب,حتى أشهُر قليلة ماضية فقط ,واحدًا من "عظماء" العرب ,و لم يبق مسئولًا غربيًّا إلّا و حجّ إلى خيمة القذافي , كان صديقه برلسكوني يُقبّل يده جهارًا, برلسكوني الذي أعلن لنا بعد مقتل القذافي مباشرة, أن "الحرب" ـ لم يقل : الثورة ,طبعًا ـ قد انتهت في ليبيا .و قد حرصت قنوات "الناتو" الإعلامية الناطقة بالنفط واللغة العربية , أن تنقل لنا مباشرة و بسرعة كبيرة ,ما قاله كل مسئول غربي ,عن مستقبل ليبيا , كنت تشاهد على التوالي ,تصريحات ,أوباما ,قائد عمليات الناتو ,كاميرون,برلسكوني, ميركل, مصادر قصر الأليزيه في فرنسا ,بان كي مون , تُنقَل بالتتابع وعلى عجل على تلك القنوات ,ليُخبرنا هؤلاء, ما الذي يجب أن تكون عليه ليبيا في المستقبل , و في صباح اليوم التالي ـ الجمعة ,تحدّث مذيع و مذيعة برنامج صباحي على أشهر قناة عربيّة مُنوّعة "ام بي سي",بفخر شديد ,عن متابعات الرئيس أوباما لحظة بلحظة لعملية قتل القذافي وكل ما يجري في ليبيا , تحدّثا عن ( نجاحات أوباما المتلاحقة ) وأخبرانا أنّ مقتل بن لادن و مقتل القذافي ,يدخلان في عداد نجاحات الرئيس الأمريكي ( و مجلس الناتو في ليبيا قرّر دفن القذافي بطريقة مشابهة لطريقة الدفن "الإسلاميّة" الأمريكية لأسامة بن لادن بعد قتله ,الدفن في مكان مجهول,بحرًا أو برًّا ,لا فرق, المهم ألّا يهتدي الناس إلى قبر هذا "العدو",ممّ يخافون ؟! من أن يتحوّل قبره إلى مزار ؟ هل هذا إقرار بشعبيته مثلًا ؟ هل يظنون أنه نبيّ أو قدّيس و له كل هؤلاء الأتباع و المُريدون؟ لماذا أسقطوه إذن؟ أم يظنّون أنّ قبره سيُنبَش و يُمثَّل بجثته ؟ ألأننا همج بنظرهم ؟ أليس هناك ثمة صورة ثالثة لنا في عقولهم ؟ أليس ثمة أي احتمال لديهم ,بأننا أناس عاديّون مثلنا مثل غيرنا ؟ مثلنا مثل الأمريكيين مثلًا ,الذين يُقدّس بعضهم رونالد ريغن ,الذي قصف بيت القذافي و قتل أطفاله في زمان مضى ؟.
خلال ساعات طوال بعد مقتل القذافي,لم يكن هناك ثمّة خبر واحد على تلك القنوات ,يُنبئنا عن تصريح لشخص عربيّ ,حول ما جرى في ليبيا و حول ما الذي سيجري في ليبيا لاحقاً ,لكن ,بما أنه ممنوع على أي عربيّ لا يعمل عند الناتو , من الحديث عن مستقبل العرب و أوطانهم على قنوات الناتو , فلا حاجة لنقل تصريحات ولاة الناتو و عُمَّاله, إذ حين يتحدث الأصيل , يُغلِق الوكيل فمه تمامًا .
جو غانم .